فصل: الجملة الرابعة في أعياد اليهود:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: صبح الأعشى في كتابة الإنشا (نسخة منقحة)



.الجملة الرابعة في أعياد اليهود:

وهي على ضربين:
الضرب الأول: ما نطقت به التوراة بزعمه. وهي خمسة أعياد:
العيد الأول: رأس السنة، يعملونه عيد رأس سنتهم ويسمونه عيد رأس هيشا أي عيد رأس الشهر، وهو أول يوم من تشرى يتنزل عندهم منزلة عيد الأضحى عندنا، ويقولون: إن الله تعالى أمر إبراهيم عليه السلام بذبح إسماعيل ابنه فيه وفداه بذبح عظيم.
العيد الثاني: عيد صوماريا ويسمونه الكبور، وهو عندهم الصوم العظيم الذي يقولون إن الله تعالى فرض عليهم صومه، ومن لم يصمه قتل عندهم. ومدة هذا الصوم خمس وعشرون ساعة يبدأ فيها قبل غروب الشمس في اليوم التاسع من شهر تشرى، وتختم بمضي ساعة بعد غروبها في اليوم العاشر، وربما سموه العاشور. ويشترط فيه لجواز الإفطار عندهم رؤية ثلاثة كواكب عند الإفطار وهي عندهم تمام الأربعين الثالثة التي صمها موسى عليه السلام. ولا يجوز أن يقع هذا الصوم عندهم في يوم الأحد، ولا في يوم الثلاثاء، ولا في يوم الجمعة، ويزعمون أن الله يغفر لهم فيه جميع ذنوبهم ما خلا الزنا بالمحصنة، وظلم الرجل أخاه، وجحده ربوبية الله تعالى.
العيد الثالث: عيد المظلة، وهو سبعة أيام أولها الخامس عشر من تشرى وكلها أعياد عندهم، واليوم الآخر منها يسمى عرايا أي شجر الخلاف، وهو أيضاً حج لهم. يجلسون في هذه الأيام تحت ظلال من جريد النخل وأغصان الزيتون والخلاف، وسائر الشجر الذي لا ينتشر ورقه على الأرض؛ ويزعمون أن ذلك تذكار منهم لإظلال الله إياهم في التيه بالغمام.
العيد الرابع: عيد الفطير ويسمونه الفصح، ويكون في الخامس عشر من نيسان؛ وهو سبعة أيام أيضاً، يأكلون فيها الفطير، وينظفون بيوتهم فيها من خبز الخير لأن هذه الأيام عندهم هي الأيام التي خلص الله فيها بني إسرائيل من يد فرعون وأغرقه، فخرجوا إلى التيه، فجعلوا يأكلون اللحم والخبز الفطير وهم بذلك فرحون، وفي أحد هذه الأيام غرق فرعون.
العيد الخامس: عيد الأسابيع، ويسمى عيد العنصرة وعيد الخطاب، ويكون بعد عيد الفطير بسبعة أسابيع، واتخاذهم لهذا العيد في السادس من سيوان من شهور اليهود، وهو الثلاث والعشرون من بشنس من شهور القبط. يقولون: إنه اليوم الذي خاطب الله في بني إسرائيل من طور سينا، وفي جملة هذا الخطاب العشر كلمات، وهي وصايا تضمنت أمراً ونهياً، وضمنت التوفيق لمن حصلها حفظاً ورعياً، وهو حج من حجوجهم؛ وحجوجهم ثلاثة: الأسابيع، والفطير، والمظلة؛ وهم يعظمونه، ويأكلون فيه القطائف، ويتفننون في عملها، ويجعلونها بدلاً عن المن الذي أنزل الله عليهم في هذا اليوم، ويسمى هذا العيد أيضاً عشرتا، ومعناه الاجتماع.
الضرب الثاني: ما أحدثه اليهود زيادة على ما زعموا أن التوراة نطقت به، وهو عيدان:
العيد الأول: الفوز، وهو عندهم عيد سرور ولهو وخلاعة يهدي فيه بعضهم إلى بعض؛ وهم يقولون: إن سبب اتخاذهم له أن بختنصر لما أجلى من كان ببيت المقدس من اليهود إلى عراق العجم أسكنهم بحي، وهي إحدى مدينتي أصفهان ثم ذهبت أيام الكلدانيين وملكت الفرس الأولى والأخيرة، فلما ملك أردشير بن بابك وتسميه اليهود بالعبرانية أجشادوس، وكان له وزير يسمونه بلغتهم هيمون، ولليهود يومئذ حبر يسمى بلغتهم مردوخاي، فبلغ أردشير أن له ابنة عم من أحسن أهل زمانها وأكملهم عقلاً، فطلب تزويجها منه فأجابه لذلك، فحظيت عنده حظوة صار بها مردوخاي قريباً منه، فأراد هيمون إصغاره واحتقاره حسداً له، وعزم على إهلاك طائفة اليهود التي في جميع مملكة أردشير، فرتب مع نواب الملك في جميع الأعمال أن يقتل كل أحد منهم من يعلمه من اليهود، وعين له يوماً وهو النصف من آذار؛ وإنما خص هذا اليوم دون سائر الأيام لأن اليهود يزعمون أن موسى ولد فيه وتوفي فيه، وأراد بذلك المبالغة في نكايتهم ليتضاعف الحزن عليهم بهلاكهم وبموت موسى، فاتضح لمرودخاي ذلك من بعض بطانة هيمون، فأرسل إلى ابنة عمه يعلمها بما عزم عليه هيمون في أمر اليهود، وسألها إعلام الملك بذلك، وحضها على إعمال الحيلة في خلاص نفسها وخلاص قومها، فأعلمت الملك بالحال وذكرت له: إنما حمله على ذلك الحسد على قربنا منك ونصيحتنا لك، فأمر بقتل هيمون وقتل أهله، وأن يكتب لليهود بالأمان والبر والإحسان في ذلك اليوم، فاتخذوه عيداً؛ واليهود يصومون قبله ثلاثة أيام، وفي هذا العيد يصورون من الورق صورة هيمون ويملأون بطنها نخالة وملحاً ويلقونها في النار حتى تحترق، يخدعون بذلك صبيانهم.
العيد الثاني: عيد الحنكة، وهو ثمانية أيام، يوقدون في الليلة الأولى من لياليه على كل باب من أبوابها سراجاً، وفي الليلة الثانية سراجين، وهكذا إلى أن يكون في الليلة الثامنة ثمانية سرج، وهم يذكرون أن سبب اتخاذهم لهذا العيد أن بعض الجبابرة تغلب على بيت المقدس وفتك باليهود وافتض أبكارهم، فوثب عليه أولاً كهانهم وكانوا ثمانية فقتله أصغرهم، وطلب اليهود زيتاً لوقود الهيكل فلم يجدوا إلا يسيراً وزعوه على عدد ما يوقدونه من السرج على أبوابهم في كل ليلة إلى تمام ثمان ليال فاتخذوا هذه الأيام عيداً سموه الحنكة، ومعناه التنظيف لأنهم نظفوا فيه الهيكل من أقذار شيعة الجبار، وبعضهم يسميه الرباني.

.الجملة الخامسة في أعياد الصابئين:

ومدار أعيادهم على الكواكب؛ وأعيادهم عند نزول الكواكب الخمسة المتحيرة وهي زحل والمشتري، والمريخ، والزهرة، وعطارد في بيوت شرفها، وذلك أن من البروج ما يقوم لهذه الكواكب مقام قصر العز للملك، يشتهر فيه ويعلو ويشرف؛ وفيها درجات معلومة ينسب الشرف إليها؛ ومنها ما يخمل فيه ويفسد حاله، ويكون ذلك أيضاً في درجات معلومة، تقابل درجات الشرف به من البرج المقابل، ويسمى ذلك هبوطاً؛ فزحل شرفه في إحدى وعشرين درجة من الميزان، ويهبط في مثلها من الحمل، والمشتري يشرف في خمس عشرة درجة من السرطان، ويهبط في مثلها من الجدي، والمريخ يشرف في ثمان عشرة درجة من الجدي، ويهبط في مثلها من السرطان؛ والزهرة تشرف في تسع وعشرين درجة من الحوت، وتهبط فيمثلها من السنبلة؛ وعطارد شرفه في خمس عشرة درجة من السنبلة، ويهبط في مثلها من الحوت، وكذلك الشمس تشرف في تسع عشرة درجة من الحمل، وتهبط في مثلها من الميزان؛ والقمر يشرف في ثلاث درجات من السنبلة، ويهبط في مثلها من الحوت. وهم يعظمون اليوم الذي تنزل الشمس فيه الحمل، ويلبسون فيه أفخر ثيابهم. وهو عندهم من أعظم الأعياد. وكانت ملوكهم تبني الهياكل وتجعل لها أعياداً بحسب الكواكب التي بنيت على اسمها فيه.

.الباب الثاني من المقالة الأولى فيما يحتاج إليه الكاتب من الأمور العملية وهو الخط وتوابعه ولواحقه:

وفيه أربعة فصول:

.الفصل الأول في ذكر آلات الخط ومباديه وصوره وأشكاله وما ينخرط في سلك ذلك:

وفيه ثلاثة أطراف:

.الطرف الأول في الدواة وآلاتها:

وفيه مقصد:

.المقصد الأول في نفس الدواة:

وفيه أربع جمل:
الجملة الأولى في فضلها:
قد اخرج ابن أبي حاتم من رواية أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «خلق الله النون وهي الدواة» وأخرج ابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: لما خلق الله النون وهي الدواة وخلق القلم فقال اكتب فقال وما أكتب قال اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة. وهذا الخبر والأثر دالان على أن المراد بالنون في الآية هو الدواة، وإن فسره بعضهم بغير ذلك، إذ الدواة هي المناسبة في الذكر لذكر القلم وتسطير الكتابة في قوله تعالى: {ن والقلم وما يسطرون}. وبالجملة فإن الدواة هي أم آلات الكابة، وسمطها الجامع لها، ولا يخفى ما يحب من الاهتمام بأمرها والاحتفال بشأنها؛ فقد قال عبد الله بن المبارك: من خرج من بيته بغير محبرة وأداة فقد عزم على الصدقة، قال المدائني: يعني بالأداة مثل السكين والمقلمة، وأشباههما. قال محمد بن شعيب ابن سأبور: مثل الكاتب بغير دواة كمثل من يسير إلى الهيجاء بغير سلاح.
الجملة الثانية في أصلها في اللغة:
قال أبو القاسم بن عبد العزيز: تقول العرب: دواة ودويات في أدنى العدد، وفي الكثير دُويُّ دِويُّ بضم الدال وكسرها، ويقال أيضاً دُواء، ودَواء بضم الدال وكسرها ودوايا مثل حوايا؛ وأدويت دواة أي اتخذت دواة؛ ورجل دواء بفتح الدال وتشديد الواو إذا كان يبيعها، كقولك عًطار وبَزار.
الجملة الثالثة فيما ينبغي أن تتخذ منه وما تحلى به:
أما ما تتخذ منه فينبغي أن تتخذ من أجود العيدان وأرفعها ثمناً كالأبنوس، والساسم، والصندل، وهذا اعتماد منه على ما كان يعتاد أهل زمانه، ويتعاناه أهل عصره.
قلت: وقد غلب على الكتاب في زماننا من أهل الإنشاء وكتاب الأموال اتخاذ الدوي من النحاس الأصفر، والفولاذ، وتغالوا في أثمانها وبالغوا في تحسينها. والنحاس أكثر استعمالاً، والفولاذ أٌل لعزته ونفاسته، واختصاصه بأعلى درجات الرياسة كالوزارة وما ضاهاها.
وأما دوي الخشب فقد رفضت وتركت إلا الأبنوس والصندل الأحمر، فإنه يتعاناه في زماننا قضاة الحكم وموقعوهم وبعض شهود الدواوين.
وأما التحلية، فقال الحسن بن وهب: سبيل الدواة أن يكون عليها من الحلية أخف ما يكون ويمكن أن تحلى به الدوي، وفي وثاقة ولطف، ليأمن من أن تنكسر أو تنقصم في مجلسه، قال: وحق الحلية أن تكون ساذجة بغير حفر ولا ثنيات فيه ليأمن من مسارعة القذى والدنس إليها. ولا يكون عليها نقش ولا صورة. وحق هذه الحلية مع ما ذكره ابن وهب أن تكون من النحاس ونحوه دون الفضة والذهب. على أن بعض الكتاب في زماننا قد اعتاد التحلية بالفضة، ولا يخفى أن حكم ذلك حكم الضبة في الإناء فتحرم مع الكبر والزينة، وتكره مع الصغر والزينة والكبر والحاجة، وتباح مع الصغر والحاجة من كسر ونحوه، كما قرره أصحابنا الشافعية رحمهم الله، نعم يحرم التكفيت بالذهب والفضة، وكذلك التمويه إذا كان يحصل منه بالعرض على النار شيء، والله أعلم.
الجملة الرابعة في قدرها وصفتها:
قال الحسن بن وهب: سبيل الدواة أن تكون متوسطة في قدرها، لا بالقصيرة فتقصر أقلامها وتقبح، ولا بالكثيفة فيثقل محملها وتعجف. فلا بد لصاحبها أن يحملها ويضعها بين يدي ملكه أو أميره في أوقات مخصوصة، ولا يحسن أن يتولى ذلك غيره. قال الفضل: ويكون طولها بمقدار عظم الذراع أو فويق ذلك قليلاً لتكون مناسبة لمقدار القلم. قلت: وقد اختلفت مقاصد أهل الزمان في هيئة الدواة: من التدوير والتربيع. فأما كتاب الإنشاء فإنهم يتخذونها مستطيلة مدورة الرأسين، لطيفة القد، طلباً للخفة، ولأنهم إنما يتعانون في كتابتهم الدرج، وهو غير لائق بالدواة في الجملة، على أن الصغير من الدرج لا يأبى جعله في الدواة المدورة. وأما كتاب الأموال، فإنهم يتخذونها مستطيلة مربعة الزوايا، ليجعلوا في باطن غطائها ما استخفوه مما يحتاجون إليه من ورق الحساب الديواني المناسب لهذه الدواة في القطع، وعلى هذا الأنموذج يتخذ قضاة الحكم وموقعوهم دويهم؛ إلا أنها في الغالب تكون من الخشب كما تقدم.
واعلم أنه ينبغي للكاتب أن يجتهد في تحسين الدواة وتجويدها وصونها. ولله المدائني حيث يقول:
جود دواتك واجتهد في صونها ** إن الدوي خزائن الآداب

وأهدى أبو الطيب عبد الرحمن بن أحمد بن زيد بن الفرج الكاتب إلى صديق له دواة آبنوس محلاة وكتب معها:
لم أر سوداء قبلها ملكت ** نواظر الخلق والقلب معاً

لا الطول أزرى بها ولا قصر ** لكن أتت للوصول مجتمعا

فوقك جنح من الظلام بها ** وبارق في الحسن كل من سمعا

أما المحبرة المفردة عن الدواة فقد اختلف الناس فيها، فمنهم من رجحها ومالوا إلى اتخاذها لخفة حملها، وقالوا: بها يكتب القرآن والحديث والعلم. وكرهها بعضهم واستقبحها من حيث إ، ها آلة النسخ الذي هو من أشد الجرف وأتعبها، وأقلها مكسباً.
ويروى أن شعبة رأى في يد رجل محبرة فقال: أرم بها فإنها مشؤومة لا يبقى معها أهل ولا ولد، ولا أم ولا أب.

.الطرف الثاني في الآلات التي تشتمل عليها الدواة:

وهي سبع عشرة آلة أول كل آلة منها ميم.
الآلة الأولى: المزبر بكسر الميم:
وهو القلم أخذاً له من قولهم زبرت الكتاب إذا اتقنت كتابته، ومنه سميت الكتب زبراً كما في قوله تعالى: {وإنه لفي زبر الأولين} وفي حديث أبي بكر أنه دعا في مرضه بدواة ومزبر أي قلم.
وفيه جملتان:
الجملة الأولى في فضله:
عن الوليد بن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: دعاني أبي حين حضرة الموت فقال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «أول ما خلق الله القلم، فقال: اكتب، قال: يا رب وما أكتب؟ قال: اكتب القدر وما هو كائن إلى الأبد» رواه أحمد وأبو داود والترمذي، وقال: حسن غريب، وابن أبي حاتم واللفظ له. وعن ابن عباس رضي الله عنهما يرفعه: «إن أول ما خلق الله القلم والحوت، فقال له اكتب، فقال: يا رب وما أكتب؟ قال: اكتب كل شيء كائن إلى يوم القيامة» ثم قرأ {ن والقلم} رواه الطبراني ووقفه ابن جرير على ابن عباس. وفي رواية قال ابن عباس: «أول ما خلق الله القلم، قال: اكتب، قال: وما اكتب؟ قال: اكتب القدر، فجرى بما يكون من ذلك اليوم إلى يوم قيام الساعة، ثم خلق النون ورفع بخار الماء، فتفتقت منه السماء وبسطت الأرض على ظهر النون، فاضطرب النون، فمادت الأرض فأثبتت بالجبال، فإنها لتفخر على الأرض لأنها أثبتت عليها». رواه ابن جرير وابن أبي حاتم.
وروى محمد بن عمر المدائني بسنده إلى مجاهد: «إن أول ما خلق الله اليراع، ثم خلق من اليراع القلم، فقال له: اكتب، قال: ما أكتب؟ قال: ما هو كائن، قال: فزبر القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة». وأخرج بسنده إلى ابن عباس، قال: «أول ما خلق الله اليراع: وهو القصب المثقب، فقال: اكتب قضائي في خلقي إلى يوم القيامة». ويروى أنه لما خلقه الله تعالى نظر إليه فانشق بنصفين، ثم قال: اجر! قال: يا رب بما أجري؟ قال: بما هو كائن إلى يوم القيامة، فجرى على اللوح المحفوظ بذلك، وكان منه {تبت يدا أبي لهب}. ويروى أن خلقه قبل خلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة.
واعلم أن القلم اشرف آلات الكتابة وأعلاها رتبة، إذ هو المباشر لكتابة دون غيره، وغيره من آلات الكتابة كالأعوان، وقد قال الله تعالى: {ن والقلم وما يسطرون} فأقسم به، وذلك في غاية الشرف. ولله أبو الفتح البستي حيث يقول:
إذا أقسم الأبطال يوماً بسيفهم ** وعدوه مما يكسب المجد والكرم

كفى قلم الكتاب عزاً ورفعة ** مدى الدهر أن الله أقسم بالقلم

وقال تعالى: {اقرأ وربك الأكرم * الذي علم بالقلم} فأضاف التعليم بالقلم إلى نفسه. قال ابن الهيثم: من جلالة القلم أن الله عز وجل لم يكتب كتاباً إلا به، لذلك أقسم به. قال المدائني: وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من قلم قلماً يكتب به علماً أعطاه الله شجرة في الجنة خير من الدنيا وما فيها». وقد قيل الأقلام مطايا الفطن، ورسل الكرم. وقال عبد الحميد: القلم شجرة ثمرها الألفاظ، والفكر بحر لؤلؤه الحكمة، وفيه ري العقول الكامنة. وقال جبل بن زيد: القلم لسان البصر يناجيه بما ستر عن الأسماع. وقال ابن المقفع: القلم يريد العلم يحث على البحر، ويبحث عن خفي النظر. وقال أحمد بن يوسف: ما عبرات الغواني في خدودهن بأحسن من عبرات الأقلام. وقيل: القلم الطلسم الأكبر. وقيل: البيان اثنان: بيان لسان، وبيان بنان؛ ومن فضل بيان البنان أن ما تثبته الأقلام باق على الأبد، وما ينبسه اللسان تدرسه الأيام. ويقال: عقول الرجال تحت أسنة أقلامها، بنوء الأقلام يصوب غيث الحكمة. وقال جعفر بن يحيى: لم أر باكياً أحسن تبسماً من القلم.
قال ابن المعتز: القلم مجهز لجيوش الكلام، تخدمه الإرادة، ولا يمل من الاستزادة، كأنه يقبل بساط سلطان، أو يفتح نور بستان.
ومن إنشاء الوزير ضياء الدين بن الأثير الجزري، من جواب كتبه للعماد الأصفهاني: وكيف لا يكون ذلك، وقلمهم هو اليراع الذي نفثت الفصاحة في روعه، وكمنت الشجاعة بين ضلوعه، فإذا قال أراك كيف تنسق الفرائد في الأجياد.
ومن كلام أبي حفص بن برد الأندلسي: ما أعجب شأن القلم! يشرب ظلمة، ويلفظ نوراً؛ قد يكون قلم الكاتب، أمضى من شاة المحارب؛ القلم سهم ينفذ المقابل، وشفرة تطيح بها المفاصل. ومن كلام العميد عمر بن عثمان الكاتب: قلم يطلق الأجال والأرزاق، وينفث السم والدرياق؛ قلم تدق عن الإدراك حركاته، وتحلى بالنفائس فتكاته؛ يسرع ولا انحدار السيل إلى قراره، وانقداح الضوء من شراره، معطوفة الغايات على المبادي، مصروفة الأعجاز إلى الهوادي؛ وإذا صال أراك كيف اختلاف الرماح بين الآساد. وله خصائص أخرى يبدعها إبداعاً، فإذا لم يأت بها غيره تطبعاً أتى بها هو طبعاً، فطوراً يرى إماماً يلقي درساً، وطوراً يرى ماشطة تجلو عرساً، وطوراً يرى ورقاء تصدح في الأوراق، وطوراً يرى جواداً مخلقاً بخلوق السباق، وطوراً أفعواناً مطرقاً، والعجب أنه لا يزهو إلا عند الإطراق! ولطالما نفث سحراً، وجلب عطراً، وأدار في القرطاس خمراً؛ وتصرف في صنوف الغناء فكان في الفتح عمر، وفي الهدي عماراً، وفي الكيد عمراً فلا تحظى به دولة إلا فخرت على الدول، واستغنت عن الخيل والخول.
وقال الإسكندر: لولا القلم ما قامت الدنيا، ولا استقامت المملكة. وكل شيء تحت العقل واللسان لأنهما الحكمان على كل شيء، والقلم يريكهما صورتين، ويوجدكهما شكلين.
وقال بعض حكماء اليونان: أمور الدنيا تحت شيئين: السيف والقلم، والسيف تحت القلم. وقال آخر: فاقت صنعة القلم عند سائر الأمم جمع الحكم في صحون الكتب. وقال العتابي: ببكاء القلم تبسم الكتب. وقال البحتري: الأقلام مطايا الفطن. وقال أبو دلف العجلي: القلم صائغ الكلام، يفرغ ما يجمعه الفكر، ويصوغ ما يسبكه اللب. وقال سهل بن هارون: القلم أنف الضمير، إذا رعف أعلن أسراره، وأبان آثاره. وقال ثمامة: ما أثرته الأقلام لم تطمع في درسه الأيام. وقال هشام بن الحكم: أحسن الصنيع صنيع القلم والخط الذي هو جنى العقول. وقال علي بن منصور: بنور القلم تضيء الحكمة. وقال الجاحظ: من عرف النعمة في بيان اللسان كان بفضل النعمة في بيان القلم أعرف. وقال غيره: بالقلم تزف بنات العقول إلى خدور الكتب. وقال المأمون: لله در القلم كيف يحوك وشي المملكة. وقال بعض الأعراب: القلم ينهض بما يظلع بحمله اللسان، ويبلغ ما لا يبلغه البيان. وقال بعضهم: القلم يجعل للكتب ألسناً ناطقة، وأعيناً ملاحظة؛ وربما ضمنها من ودائع القلوب ما لا تبوح به الإخوان عند المشاهدة. وقال أوميرس الحكيم: الخط شيء أظهره العقل بواسطة سن القلم، فلما قابل النفس عشقته بالعنصر. وقال مرطس الحكيم: الخط بالقلم ينمي الحكمة. وقال جالينوس: القلم الطلسم الأكبر. وقال بقراط: القلم على إيقاع الوتر، والمهنة المنطقية مقدمة على المهنة الطبيعية. وقال بليناس: القلم طبيب المنطق. قال أرساطاليس: القلم العلة الفاعلة، والمداد العلة الهيولانية، والخط العلة الصورية، والبلاغة العلة التمأمية. وقد أكثر الشعراء القول في شرف القلم وفضله.
فمن ذلك قول أبي تمام الطائي:
إن يخدم القلم السيف الذي خضعت ** له الرقاب وذلت خوفه الأمم

فالموت والموت لا شيء يغالبه ** ما زال يتبع ما يجري به القلم

كذا قضى الله للأقلام مذ بريت ** أن السيوف لها مد أرهفت خدم

وقوله:
لك القلم الأعلى الذي بشباته ** صاب من الأمر الكلي والمفاصل

لعاب الأفاعي القائلات لعابه ** وأري الجنى اشتارته أيد عواسل

له ريقة ظل ولكن وقعها ** بآثاره في الشرق الغرب وابل

فصيح إذا استنطقته وهو راكب ** وأعجم إن خاطبته وهو راجل

إذا ما امتطى الحمس اللطاف وأفرغت ** عليه شعاب الفكر وهي حوافل

أطاعته أطراف القنا وتقوضت ** لنجواه تقويض الخيام الجحافل

إذا استغزر الذهن الجلي وأقبلت ** أعاليه في القرطاس وهي أسافل

وقد رفدته الخنصران وسددت ** ثلاث نواحيه الثلاث الأنامل

رأيت جليلاً شأنه وهو مرهف ** ضناً وسميناً خطبه وهو ناحل

وقول أبي هلال العسكري:
انظر إلى قلم ينكس رأسه ** ليضم بين موصل ومفصل

تنظر إلى مخلاب ليث ضيغم ** وغرار مسنون المضارب مفصل

يبدو لناظره بلون أصفر ** ومدامع سود وجسم منحل

فالدرج أبيض مثل خد واضح ** يثنيه أسود مثل طرف أكحل

قسم العطايا والمنايا في الورى ** فإذا نظرت إليه فاحذر وأمل

طعمان شوب حلاوة بمرارة ** كالدهر يخلط شهده بالحنظل

فإذا تصرف في يديك عنانه ** ألحقت فيه مؤملاً بمؤمل

ومذللاً بمعزز ولربما ** ألحقت فيه معززاً بمذلل

وقوله:
لك القلم الجاري ببوس وأنعم ** فمنها بواد ترتجى وعوائد

إذا ملأ القرطاس سود سطوره ** فتلك أسود تتقى وأساود

وتلك جنان تجتنى ثمراتها ** ويلقاك من أنفاسهن بوارد

وهن برود ما لهن مناسج ** وهن عقود ما لهن معاقد

وهن حياة للولي رضية ** وهن حتوف للعدو رواصد

الجملة الثانية في اشتقاقه:
وقد اختلف في ذلك؛ فقيل: سمي قلماً لاستقامته كما سميت القداح أقلاماً في قوله تعالى: {إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم} قال بعض المفسرين تشاحوا في كفالتها فضربوا عليها بالقداح، والقداح مما يضرب بها المثل في الاستقامة؛ وقيل: هو مأخوذ من القلام وهو شجر رخو فلما ضارعه القلم في الضعف سمي قلماً؛ وقيل: سمي قلماً لقلم رأسه، فقد قيل إنه لا يسمى قلماً حتى يبرى، أما قبل ذلك فهو قصبة. كما لا يسمى الرمح رمحاً إلا إذا كان عليه سنان وإلا فهو قناة، ومنه قلامة الظفر؛ وإلى ذلك يشير أبو الطيب الأزدي بقوله:
قلم قلم أظفار العدا ** وهو كالإصبع مقصوص الظفر

أشبه الحية حتى إنه ** كلما عمر في الأيدي قصر

وقيل لأعرابي: ما القلم؟ ففكر ساعة وقلب يده، ثم قال: لا أدري، قيل له: توهمه، قال: هو عود قلم من جوانبه كتقليم الظفر، فسمي قلماً.
الجملة الثالثة في صفته:
قال إبراهيم بن العبا لغلام بين يديه يعلمه الخط: ليكن قلمك صلباً بين الدقة والغلظ، ولا تبره عند عقدة فإن فيه تعقيد الأمور، ولا تكتب بقلم ملتوي، ولا ذي شق غيرمستوي؛ وإن أعوزك البحري والفارسي، واضطررت إلى الأقلام النبطية فاختر منها ما يميل إلى السمرة.
وقال إبراهيم بن محمد الشيباني: ينبغي للكاتب أن يتخير من أنابيب القصب أقله عقداً، وأكثفه لحماً، وأصلبه قشراً، وأعدله استواء. وقال العتابي: سألني الأصمعي يوماً بدار الرشيد: أي الأنابيب للكتابة أصلح وعليها أصبر؟ فقلت: ما نشف بالهجير ماؤه، وستره من تلويحه غشاؤه؛ من التبرية القشور، الدرية الظهور، الفضية الكسور.
وكتب علي بن الأزهر إلى صديق له يستدعي منه أقلاماً: أما بعد، فإنا على طول الممارسة لهذه الكتابة التي غلبت إلى الاسم، ولزمت لزوم الوسم؛ فحلت محل الأنساب، وجرت مجرى الألقاب، وجدنا الأقلام الصخرية أجرى في الكواغد، وأمر في الجود؛ كما أ، البحرية منها أساس في القراطيس، وألين في المعاطف، وأشد لتصرف الخط فيها؛ ونحن في بلد قليل القصب رديئه، وقد أحببت أن تتقدم في اختيار أقلام صخرية، وتتنوق في أقتنائها قبلك، وتطلبها من مظانها ومنابتها، من شطوط الأنهار، وأرجاء الكروم؛ وأن تتيمن باختيارك منها الشديدة الصلبة، النقية الجلود، القليلة الشحوم، الكثيرة اللحوم، الضيقة الأجواف، الرزينة المحمل، فإنها أبقى على الكتابة، وأبعد من الخفاء، وأن تقصد بانتقائك الرقاق القضبان، المقومات المتون، الملس المعاقد، الصافية القشور، الطويلة الأنابيب، البعيدة ما بين الكعوب، الكريمة الجواهر، المعتدلة القوام، المستحكمة يبساً، وهي قائمة على أصولها لم تعجل عن إبان ينعها، ولم تؤخر إلى الأوقات المخوفة عليها من خصر الشتاء، وعقن الأنداء، فإذا استجمعت عندك، أمرت بقطعها ذراعاً ذراعاً قطعاً رقيقاً، ثم عبأت منها حزماً فيما يصونها من الأوعية، وتكتب معه بعدتها وأصنافها من غير تأخير ولا توان.
وأهدى ابن الحرون إلى رجل من إخوانه الكتاب أقلاماً، وكتب إليه: إنه لما كانت الكتابة أبقاك الله أعظم الأمور، وقوام الخلافة، وعمود المملكة، اتحفتك من آلتها بما يخف محمله، وتنقل قيمته، ويعظم نفعه، ويجل خطره؛ وهي أقلام من القصب النابت في الصخر، الذي نشف بحر الهجير في قشره ماؤه، وستره ن تلويحه غشاؤه، وهي كاللآليء المكنونة في الصدف، والأنوار المحجوبة في السدف؛ تبرية القشور، درية الظهور، فضية الكسور؛ قد كستها الطبيعة جوهراً كالوشي المحبر، ورونقاً كالديباج المنير.
ومن كتاب لأبي الخطاب الصابئ يصف فيه أقلاماً أهداها في جملة أصناف: وأضفت إليها أقلاماً سليمة من المعايب، مبرأة من المثالب؛ جمة المحاسن؛ بعيدة عن المطاعن؛ لم ير بها طول ولا قصر، ولا ينقصها ضعف خور؛ ولا يشينها لين ولا رخاوة، ولم يعبها كزازة ولا قساوة؛ وهي آخذة بالفضائل من جميع جهاتها، مستوفية للممادح بسائر صفاتها؛ صلبة المعاجم، لدنة المقاطع؛ موفية القدود والألوان، محمودة المخبر والعيان؛ وقد استوى في الملاسة خارجها وداخلها، وتناسب في السلاسة عاليها وسافلها؛ نبتت بين الشمس والظل، واختلف عليها الحر والقر؛ فلفحها وقدان الهواجر، ولفعها سمائم شهر ناجر؛ ووقدها الشفان بصرده، وقذفها الغمام ببرده، وصابتها الأنواء بصيبها، واستهلت عليها السحائب بشآبيبها؛ فاستمرت مرائرها على إحكام، واستحصد سجلها بالإبرام؛ جاءت شتى الشيات، متغايرة الهيئات، متباينة المحال والبلدان؛ تختلف بتباعد ديارها، وتأتلف بكرم نجارها.
فمن أنانيب قناً ناسبت رماح الخط في أجناسها، وشاكلت الذهب في ألوانها، وضاهت الحريرر في لمعانها؛ مضابطة الحفاء، نمرة القوى؛ لا يسيطها القط، ولا يشعب بها الخط.
ومن مصرية بيض كأنها قباطي مصر نقاء، وغرقئ البيض صفاء؛ غذاها الصعيد من ثراه بلبه، وسقاها النيل من نميره وعذبه؛ فجاءت ملتئمة الأجزاء، سليمة من الالتواء؛ تستقيم شقوقها في أطوالها، ولا تنكب عن يمينها ولا شمالها، مقترن بها صفراء كأنها معها عقيان قرن بلجين، أو ورق خط بعين؛ تختال في صفر ملاحفها، وتميس في مذهب مطارقها، بلون غياب الشمس، وصبغ ثياب الورس.
ومن منقوشة تروق العين، وتونق النفس؛ ويهدي حسنها الأريحية إلى القلوب، ويحل الطرف لها حبوة الحليم اللبيب؛ كأنها اختلاف الزهر اللامع، وأصناف الثمر اليانع.
ومن بحرية موشية الليط، رائقة التخطيط؛ كأن داخلها قطرة دم، أو حاشية رداء معلم؛ وكأن خارجها أرقم، أو متن واد مفعم؛ نشرت ألواناً تزري بورد الخدود، وأبدت قامات تفضح تأود القدود.
ومن كلام ابن الزيات: خير الأقلام ما استحكم نضجه، وخف بزره؛ قد تساعدت عليه السعود في فلك البروج حولاً كاملاً، تؤلفه بمختلف أركانها وطباعها، ومتباين أنوائها وأنحائها؛ حتى إذا بلغ أشده واستوى، وشقت بوازله، ورقت شمائله، وابتسم من غشائه، وتأدى من لحائه، وتعرى عنه ثوب المصف، بانقضاء الخريف، وكشف عن لون البيض المكنون، والصدف المخزون؛ قطع ولم يعجل عن تمام مصلحته، ولم يؤخر إلى الأوقات المخوفة عاهاتها عليه منخصر الشتاء، وعفن الأنداء؛ فجاء مستوي الأنابيب معتدلها، مثقف الكعوب مقومها.
وقد حرز الوزير أبو علي بن مقلة رحمه الله مناط الحاجة من هذه الأوصاف، واقتصر على الضروري منها في ألفاظ قلائل فقال: خير الأقلام ما استحكم نضجه في جرمه، ونشف ماؤه في قشره، وقطع بعد إلقاء بزره، وبعد أن اصفر لحاؤه، ورق شجره، وصلب شحمه، وثقل حجمه.
الجملة الرابعة في مساحة الأقلام في طولها وغلظها:
قال ابن مقلة: خير الأقلام ما كان طوله من ستة عشر إصبعاً إلى اثني عشر، وامتلاؤه ما بين غلظ السبابة إلى الخنصر. وهذا وصف جامع لسائر أنواع الأقلام على اختلافها.
وقال في موضع آخر: أحسن قدود القلم ألا يتجاوز به الشبر بأكثر من جلفته، ويشهد له قول الشاعر:
فتى لو حوى الدنيا لأصبح عارياً ** من المال معتاضاً ثياباً من الشكر

له ترجمان أخرس اللفظ صامت ** على قاب شبر بل يزيد على الشبر

وقال الشيخ عماد الدين الشيرازي: أحمد الأقلام ما توسطت حالته في الطول والقصر، والغلظ والدقة، فإن الدقيق الضئيل تجتمع عليه الأنامل فيبقى مائلاً إلى ما بين الثلث، والغليظ المفرط لا تحمله الأنامل.
وقال في الحلية: إذا كانت الصحيفة لينة ينبغي أن يكون القلم لين الأنبوب، وفي لحمه فضل، وفي قشره صلابة؛ وإن كانت صلبة، كان يابس الأنبوب صلبه، ناقص الشحم، لأن حاجته إلى كثرة المداد في الصحيفة الرخوة أكثر من حاجته إليه في الصحيفة الصلبة؛ فرطوبته ولحمه يحفظان عليه غزارة الاستمداد؛ ويكفي في الصحيفة الصلبة ما وصل إليها في القلم الصلب الخالي من المداد، والله جل ذكره أعلم.
الجملة الخامسة في بري القلم:
وفيه خمسة أنظار:
النظر الأول في اشتقاقه وأصل معناه يقال بريت القلم أبريه برياً وبراية غير مهموز، وهو قلم مبري، وأنا بارٍ للقلم بغير همز أيضاً، قال الشاعر:
يا باري القوس برياً ليس يحكمه ** لا تفسد القوس أعط القوس باريها

ويقال أيضاً: بَرَوْتُ القلم والعُودَ برواً بالواو، والياء أفصح. ويقال لما سقط منه حالة البري بُرًايةُ بضم الموحدة ي أوله على وزن نُزَالةٍ وحُثَالةٍ، والفُعالة اسم لكل فضلة تفضل من الشيء، وتقول في الأمر: ابر قلمك.
النظر الثاني في الحث على معرفة البِرَاية قال الحسن بن وهب: يحتاج الكاتب إلى خِلالٍ، منها: جودة بَرْي القلم، وإطالة جلفته، وتحريف قطته، وحسن التأتي لامتطاء الأنامل، وإرسال المدة بعد إشباع الحروف، والتحرز عند فراغها من الكشوف، وترك الشكل على الخطإ والإعجام على التصحيف.
ومن كلام المقر العلائي ابن فضل الله، طيب الله مهجعه: من لم يحسن الاستمداد، وبري القلم، والقط وإمساك الطومار، وقسمة حركة اليد حال الكتابة، فليس هو من الكتابة في شيء.
ويحكى أن الضحاك كان إذا أراد أن يبري قلماً توارى بحيث لا يراه أحد، ويقول: الخط كله القلم. وكان الأنصاري إذا أراد أن يبري فعل ذلك، فإذا أراد أن يقوم من الديوان قطع رؤوس الأقلام حتى لا يراها أحد.
وقال إسحاق بن حماد: لا حذق لغير مميز لصنوف البراية، ورأى إبراهيم بن المحبس رجلاً يأخذ على جارية قلم الثلث، فقال: أعلمتها البراية؟ قال: لا، قال: كيف تحسن أن تكتب بما لا تحسن برايته؟ تعلم البراية أكبر من تعليم الخط.
قال المقر العلاني ابن فضل الله: رأيت بخط أبي علي بن مقلة رحمه الله، نَعَمْ نَعَمْ مِلاك الخط حسن البراية، ومن أحسنها سهل عليه الخط، ولا يقتصر على علم فين منها دون فن، فإنه يتعين على من تعاطى هذه الصناعة أن يحفظ كل فن منها على مذهبه من زيادة في التحريف، ومن النقصان منه، ومن اختلاف طبقاته، ومن وعي قلبه كثرة أجناس قط الأقلام كان مقتدراً على الخط، ولا يتعلم ذلك إلا عاقل، والقلم للكاتب كالسيف للشجاع.
وقال الضحاك بن عجلان: القلم من أجناس الأقلام كاللحن من أجناس الألحان في الصناعة، والبراية الواحدة من أجناس البراية كذلك.
ومن كلام المقر العلاني ابن فضل الله: جودة البراية نصف الخط.
ومنهم من ذهب إلى أن العبرة بحسن الصنعة دون بري القلم، حتى حكى الغزالي رحمه الله في نصيحة الملوك أن الصاحب بن عباد كان وزيراً لبعض الملوك، وكان معه ستة وزراء غيره فكانوا يحسدونه، ولم يزالوا حتى ذكروا للملك أنه لا يحسن براية القلم، وعمدوا إلى أقلامه فكسروا رؤوسها، ثم إن الملك أمره يكتب كتاب في المجلس، فوجد أقلامه كلها مكسرة الرؤوس فأخذ قلماً منها، وكتب به إلى أن انتهى إلى آخر الكتاب بخط فائق رائق، فقال له الملك: إن هؤلاء يزعمون أنك لا تحسن بري القلم، فقال: إن أبي علمني كاتباً ولم يعلمني نجاراً.
النظر الثالث في معرفة محل البراية من القلم قال إبراهيم بن محمد الشيباني: يجب أن يكون البري من جهة نبات القصبة يعني من أعلاها إذا كانت قائمة على أصلها، فإن محل القلم من الكاتب محل الرمح من الفارس؛ وإلى هذا المعنى أشار أبو تمام الطائي بقوله في أبياته المتقدمة:
إذا استغزر الذهن القوي وأقبلت ** أعاليه في القرطاس وهي أسافل

وقال أبو القاسم: إذا أخذ القلم ليبريه فلا يخلو من استقامة في البنية أو اعوجاج في الخلقة، فإن كان مستوياً فالبرية من رأسه، وهو حيث استدق، وإن كان معوجاً ودعت الضرورة إليه، فالبرية من أسفله لأن أسفله أقل التواء من أعلاه.
النظر الرابع في كيفية إمساك السكين حال البري قال ابن البربري: إذا بدأت بالبراية فأمسك السكني باليد اليمنى، والأنبوبة باليسرى، وضع إبهامك اليمنى على قفا السكين، ثم اعتمد على الأنبوبة اعتماداً رفيقاً.
النظر الخامس في صنعة البراية قال العتابي: سألني الأصمعي يوماً بدار الرشيد: أي نوع من البري أصوب وأكتب؟ فقلت: البرية المستوية القطة التي عن يمين سنها برية تأمن معها المجة عند المدة والمطة، والهواء في شقها فتيق، والريح في جوفها خريق، والمداد في خرطومها رفيق.
واعلم أنه ربما حسن الخط باعتبار براية القلم، وإن لم يكن على قواعد الخط وهندسته، فقد قيل: إن الأحول المحرر كان عجيب البراية للقلم، فكان خطه رائقاً بهجاً من غير إحكام ولا إتقان. قال الأنصاري المحرر: كنت أكتب في ديوان الأحول، فقربت منه وأخذت من خطه، وسرقت من دواته قلماً من أقلامه، فجاد خطي به، فلاحت منه نظرة إلى دواتي، فرأى القلم فعرفه، فأخذه وأبعدني. وكان إذا أراد أن يقوم من مجلسه أو ينصرف قطع رؤوس أقلامه كلها.
واعلم أن البري يشتمل على معان: المعنى الأول: في صفته، ومقداره في الطول، والتقعير.
قال الوزير أبو علي بن مقلة رحمه الله: ويجب أن يكون في القلم الصلب أكثر تقعيراًَ، وفي الرخو أقل، وفي المعتدل بينهما. وصفته أن تبتدئ بنزولك بالسكين على الاستواء، ثم تميل القطع إلى ما يلي رأس القلم، ويكون طول الفتحة مقدار عقدة الإبهام، أو كمناقير الحمام، وإلى ذلك أشار الشيخ علاء الدين السرمري رحمه الله في أرجوزته بقوله:
وطولها كعقدة الإبهام لا ** أعلى ولا أدنى يكون أرذلا

قال الأستاذ أبو الحسن بن البواب رحمه الله: كل قلم تقصر جلفته، فإن الخط يجيء به أوقص، والوقص قصر العنق، ولذلك سمي متفاعلن في عروض الكامل إذ حذفت منه التاء أوقص، وكأنه يريد بالقصر ما دون عقدة الإبهام.
وقد قال إبراهيم بن العباس الصولي الكاتب: أطل خرطوم قلمك. فقيل له: أله خرطوم؟ قال: نعم، وأنشد:
كأن أنوف الطير في عرصاتها ** خراطيم أقلام تخط وتعجم

وقال عبد الحميد بن يحيى كاتب مروان لرغبان، وكان يكتب بقلم قصير البرية: أتريد أن يجود خطك؟ قال: نعم، قال: فأطل جلفة قلمك وأسمنها، وحرف القطعة وأيمنها؛ قال رغبان: ففعلت ذلك فجاد خطي.
وقال الشيخ عماد الدين بن العفيف رحمه الله: إذا طالت البرية، فإنه يجيء الخط بها أخف وأضعف وأجلى؛ وإذا قصرت جاء الخط بها أصفى وأثقل وأقوى.
المعنى الثاني: النحت.
قال الوزير أبو علي بن مقلة: وهو نوعان: نحت حواشيه، ونحت بطنه؛ أما نحت حواشيه، فيجب أن يكون متساوياً من جهتي السن معاً، ولا يحمل على إحدى الجهتين فيضعف سنه، بل يجب أن يكون الشق متوسطاً لجلفة القلم دق أو غلظ. قال: ويجب أن يكون جانباه مسسيفين، والتسيف أن يكون أعلاه ذاهباً نحو رأس القلم أكثر من أسفله، فيحسن جري المداد من القلم، قال: وأما نحت بطنه فيختلف بحسب اختلاف الأقلام في صلابة الشحم ورخاوته. فأما الصلب الشحمة فينبغي أن ينحت وجهه فقط، ثم يجعل مسطحاً وعرضه كقدر عرض الخط الذي يؤثر الكاتب أن يكتبه؛ وأما الرخو الشحمة فيجب أن تستأصل شحمته حتى تنتهي إلى الموضع الصلب من جرم القلم، لأنك إن كتبت بشحمته، تشظى القلم ولم يصف جريانه.
ومن كلام ابن البربري: لا تقصع البراية، ولا تخالف بين حدي القلم، فإن ذلك حياكة، وإذا كان كذلك يكون القلم أحول.
ثم الجلفة على أنحاء، منها: أن يرهف جانبي البرية، ويسمن وسطها شيئاً يسيراً، وهذا يصلح للمبسوط والمعلق والمحقق.
ومنها ما تستأصل شحمته كلها، وهذا يصلح للمرسل والممزوج والمفتح. ومنها ما يرهف من جانبه الأيسر ويبقى فيه بقية في الأيمن؛ وهذا يصلح للطوأمير وما شابهها.
ومنها ما يرهف من جانبي وسطه، ويكون مكان القطة منه أعرض مما تحتها، وهذا يصلح في جميع قلم الثلث وفروعه.
المعنى الثالث: الشق وفيه مهيعان:
المهيع الأول في فائدته قال الوزير أبو علي بن مقلة رحمه الله: لو كان القلم غير مشقوق ما استمرت به الأنامل، ولا اتصل الخط للكاتب، ولكثر الاستمداد، وعدم المشق، ولمال المداد إلى أحد جنبي القلم على قدر فتل الكاتب له.
المهيع الثاني في صفة الشق؛ وفيه مدركان المدرك الأول في قدره في الطول قال ابن مقلة: ويختلف ذلك بحسب اختلاف القلم في صلابته ورخاوته.
فأما المعتدل فيجب أن يكون شقه إلى مقدار نصف الفتحة أو ثلثيها. والمعنى فيه أنه إذا زاد على ذلك انفتحت سنا القلم حال الكتابة وفسد الخط حينئذ. وإذا كان كذلك أمن من ذلك.
وأما الصلب، فينبغي أن يكون شقه إلى آخر الفتحة؛ وربما زاد على ذلك بمقدار إفراطه في الصلابة. وقد نظم ذلك الشيخ علاء الدين السرمري رحمه الله في أرجوزته فقال:
وأعلم بأن الشق أيضاً يختلف ** بحسب الأقلام فافهم ما أصف

فإن يكن معتدلاً شق إلى ** مقدار ثلث الجلفة أنقل واقبلا

والرخو للنصف أو الثلثين ذد ** والصلب بالفتحة ألحق تستفد

وربما زادوا على ذاك إذا ** أفرط في الصلابة أعرف ذا وذا

المدرك الثاني في محله من الجلفة في العرض وقد تقدم من كلام ابن مقلة رحمه الله في المعنى الثالث أنه يجب أن يكون الشق متوسطاً لجلفة القلم، وعليه جرى الأستاذ أبو الحسن بن البواب رحمه الله فقال: وليكن غلظ السنين جميعاً سواء. قال: ويجوز أن يكون الأيمن أغلظ من الأيسر دون العكس على كل حال؛ وهذا إنما يأتي إذا كانت الكتابة أخذة من جهة اليمين إلى جهة اليسار، أما إذا كانت آخذة من جهة اليسار إلى جهة اليمين كالقبطية فإنه يكون بالعكس من ذلك لأنه يقوي الاعتماد على اليسار دون اليمين.
المعنى الرابع: القط؛ وفيه مهيعان:
المهيع الأول اشتقاقه ومعناه يقال قططت القلم أقطه قطاً فأنا قاط وهو مقطوط وقطيط: إذا قطعت سنه، وأصل القط: القطع؛ والقط والقد متقاربان، إلا أن القط أكثر ما يستعمل فيما يقع السيف في عرضه، والقد ما يقع في طوله. وكان يقال: إذا علا الرجل الشيء بسيفه قده، وإذا عرضه قطه؛ وذلك أن مخرج الطاء والدال متقاربان، فأبدل أحدهما من الأخر كما يقال مط حاجبيه، ومد حاجبيه.
المهيع الثاني في صفته:
واعلم أن أجناس القط تختلف بحسب مقاصد الكتاب، وهو المقصود الأعظم من البراية، وعليه مدار الكتابة. قال الضحاك بن عجلان: من وعى قلبه كثرة أجناس قط الأقلام كان مقتدراً على الخط. وقال المقر العلائي ابن فضل الله تغمده الله برحمته: كان بعض الكتاب إذا أخذ الأنبوية ليبريها تفرس فيها قبل ذلك، فإذا أراد أن يقط توقف ثم تحرى فتوقف ثم يقط على تثبت.
قال الشيخ عماد الدين بن العفيف: والقط على نوعين:
النوع الأول: المحرف، وطريق بريه أن يحرف السكين في حال القط؛ وهو ضربان: قائم ومصوب؛ أما القائم فهو ما جعل فيه ارتفاع الشحمة كارتفاع القشرة؛ وأما المصوب، فهو ما كان القشر فيه أعلى من الشحم.
النوع الثاني: المستوي؛ وهو ما تساوى سناه؛ وأجودهما المحرف، وقد صرح بذلك الوزير أبو علي بن مقلة، فقال: وأحمدها ما كان ذا سن مرتفع من الجهة اليمنى ارتفاعاً قليلاً إذا كان القلم مصوباً، وهذا معنى التحريف؛ وذلك إذا كانت الكتابة آخذة من جهة اليمن إلى جهة اليسار كما تقدم عند ذكر سني القلم، بخلاف ما إذا كان آخذاً من جهة اليسار إلى جهة اليمين. قال الشيخ عماد الدين ابن العفيف رحمه الله: وأجودها المحرفة المعتدلة التحيف، وأفسدها المستوية، لأن المستوي أقل تصرفاً من المحرف. قال: وقد كان بعض من لا يعتد به يقط القلم على ضد ما يعتمده الأستاذون، فيصير الشحم من القلم هو المشرف على ظاهره، فكان خطه لا يجيء إلا رديئاً، وإذا كانت القطة على الضد من ذلك كان الكاتب متصرفاً في الخط، متمكناً من القرطاس. قال الوزير ابن مقلة: وأضجع السكين قليلاً إذا عزمت على القط ولا تنصبها نصباً، يريد بذلك أن تكون القطة أقرب إلى التحريف؛ وأن تكون مصوبة.
قال الشيخ شمس الدين بن أبي رقيبة: سألت الشيخ عماد الدين بن العفيف رحمه الله عن الكتابة بالأقلام، والتحريف والتدوير، فقال: الرقاع والتوقيع أميل إلى التدوير بين بين، قطة مربعة، والنسخ والمحقق والمشعر أميل إلى التحريف، والمحقق أكثر تحريفاً منهما. وقد فسر ابن الوحيد قول ابن البواب: لكن جملة ما أقول بأنه ما بين تحريف الىتدوير، أن المعنى أن لكل قلم قط صفة، فقطة الريحاني أشدها تحريفاً، ثم يقل التحريف في كل نوع من أنواع قط الأقلام حتى تكون الرقاع أقلها تحريفاً.
النظر السادس في معرفة صفات القلم فيما يتعلق بالبراية، وما لكل من سني القلم من الحروف قال الشيخ عماد الدين بن العفيف: من لم يدر وجه القلم، وصدره، وعرضه، فليس من الكتابة في شيء. وقد فسر ذلك الوزير أبو علي نب مقلة فقال: اعلم أن للقلم وجهاً وصدراً وعرضاً؛ فأما وجهه فحيث تضع السكين وأنت تريد قطه، وهو ما يلي لحمة القلم؛ وما صدره فهو ما يلي قشرته؛ وأما عرضه فهو نزولك فيه على تحريفه. قال: وحرف القلم هو السن العليا وهي اليمنى.
الجملة السادسة في مساحة رأس القلم ومقدارها من حيث موضع النقطة وتفرعها عن قلم الطومار، ونسبتها من مساحته على اختلاف مقاديرها في الدقة والغلظ والتوسط وما ينبغي أن يكون في دواة الكاتب من الأقلام:
أما مساحة رأس القلم، فاعلم أن رؤوس الأقلام تختلف باختلاف الأقلام التي جرى الاصطلاح عليها بين الكتاب، وأعظمها وأجلها وأكثرها مساحة في العرض هو قلم الطومار، وهو قلم كانت الخلفاء تعلم به في المكاتبات وغيرها. وصفته أن يؤخذ من لبب الجريد الأخضر، ويؤخذ منه من أعلى الفتحة ما يسع رؤوس الأنامل ليتمكن الكاتب من إمساكه، فإنه إذا كان على غير هذه الصورة، ثقل على الأنامل ليتمكن الكاتب من إمساكه، فإنه إذا كان على غير هذه الصورة، ثقل على الأنامل ولا تحتمله؛ ويتخذ أيضاً من القصب الفارسي؛ ولا بد من ثلاثة شقوق لتسهل الكتابة به ويجري المداد فيه. ولهم قلم دونه ويسمى مختصر الطومار، وبه بكتب النواب والوزراء ومن ضاهاهم الاعتماد على المراسيم ونحوها، وقدروا مساحة عرضه من حيث البراية بأربع وعشرين شعرة، وقلم النصف مقدر باثنتي عشرة شعرة، وقلم الثلث مقدر بثمان شعرات، ومختصر الطومار ما بين الكامل منه والثلثين. وكل من هذه الأقلام فيه ثقيل وهو ما كان إلى الشبع أميل، وخفيف، وهو ما كان إلى الدقة أقرب. إذا تقرر ذلك فطول الألف في كل قلم معتبر بأن تضرب نسبة عرضه في مثله ويجعل في مثلها خمسمائة وستاً وسبعين شعرة وهو طولها؛ وفي قلم الثلث تضرب نسبة عرضه من الطومار وهو ثمان شعرات في مثلها بأربع وستين، فيكون طولها أربعاً وستين شعرة وكذلك الجميع فاعلمه.
وأما عدد أقلام الدواة فقد قال الوزير أبو علي بن مقلة: ينبغي أن تكون أقلامه على عدد ما يؤثره من الخطوط، وكأنه يريد أن يكون في دواته قلم مبري للقلم الذي هو بصدد أن يحتاج إلى كتابته ليجده مهيأً، فلا يتأخر لأجل برايته.
الآلة الثانية: المقلمة:
وهي المكان الذي يوضع فيه الأقلام، سواء كان من نفس الدواة أو أجنبياً عنها، وقد لا تعد من الآلات لكونها من جملة أجزاء الدواة غالباً.
الآلة الثالثة: المدية:
والنظر فيها من وجهين: الوجه الأول في معناها واشتقاقها قال الجاحظ: تقال بضم الميم وفتحها وكسرها وتجمع على مدى: وهي السكين، وقد ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «كانت امرأتان معهما ابناهما فجاء الذئب فذهب بابن إحداهما، فقالت لصاحبتها: إنما ذهب بابنك، وقالت الأخرى: إنما ذهب بابنك. فتحاكما إلى داود فقضى به للكبرى، فخرجتا إلى سليمان بن داود فأخبرتاه، فقال: ائتوني بالسكين أشقه بينهما، فقالت الصغرى: لا تفعل رحمك الله هو ابنها، فقضى به للصغرى» قال أبو هريرة، إن سمعت بالسكين إلا يومئذ، ما كنا نقول إلا المدية.
ثم الأصل في السكين التذكير، قال أبو ذؤيب:
يرى ناصحاً لي ما بدا فإذا خلا ** فذلك سكين على الحلق حاذق

قال الكسائي: ومن أنث أراد المدية وأنشد:
فعيث في السنام غداة قر ** بسكين موثقة النصاب

ويقال سكينة بالهاء، وهو قيل. وفي حديث المبعث: أنه لما شق الملك بطنه صلى الله عليه وسلم قال: «ائتني بالسكينة» وتجمع على سكاكين، سميت مدية أخذاً من مدى الأجل وهو آخره، لأنها تأتي بالأجل في القتل على آخره، وسميت سكيناً لأنها تسكن حركة الحيوان بالموت. ونصاب السكين أصلها، ونصاب كل شيء أصله. قال الشاعر:
وإن نصابي إن سألت وأسرتي ** من الناس حي يقتنون المزنما

أي وإن أصلي. ويقال أنصبت السكين إذا جعلت لها نصاباً، كمنا يقال أقبضتها إذا جعلت لها مقبضاً، وأقربتها إذا جعلت لها قراباً، وأغلفتها إذا جعلت لها غلافاً، والحديدة الذاهبة في النصاب سيلان. ويقال أحددت السكين فأنا أحده إحداداً، وحد السكين نفسه صار حاداً، وأحد فهو محد، وسكين حاد، فإذا أمرت من أحده قلت: أحدده، ومن حده قلت: حده.
الوجه الثاني في صفتها:
قال بعض الكتاب: هي مسن الأقلام، تستحد بها إذا كلت وتطلق بها إذا وقفت وتلها إذا تشعثت، فتجب المبالغة في سقيها وإحدادها ليتمكن من البري، فيصفو جوهر القلم، ولا تتشظى قطته، ويبغي ألا يستعملها في غير البراية لئلا تكل وتفسد. قال الصولي: وأحدد سكينك ولا تستعملها لغير ذلك. قال الوزير أبو علي بن مقلة رحمه الله واستحد السكين حداً، ولتكن ماضية جداً، فإنها إذا كانت كالة جاء رديئاً مضطرباً. وقال الشيخ عماد الدين بن العفيف: فساد البرية من بلاد السكني. قال محمد بن عمر المدائني: ينبغي أن تكون لطيفة القد، معتدلة الحد؛ فقد روى المدائني عن الأعمش عن إبراهيم أنه قال: اتخاذ الرجل السكين في خفه من المروءة. قالوا: وأحسنها ما عرض صدره، وأرهف حده، ولم يفضل عن القبضة نصابه، واستوى من غير اعوجاج. قال الشيخ عماد الدين بن العفيف: ورأيت والدي وجماعة من الكتاب يستحسنون العقابية وهي التي صدرها أعرض من أسفلها. ووصف بعضهم سكيناً، فقال: وسيكن عتيقة الحديد، وثيقة الشعيرة محكمة النصاب، جامعة الأسباب، أحد من البين، وأحسن من اجتماع محبين وأمضى من الحسام، في بري الأقلام. ولله القائل في وصفها:
أنا إن شئت عدة لعدو ** حين يخشى على النفوس الحمام

أنا في السلم خادم لدواة ** وبحدي تقوم الأقلام

الآلة الرابعة: المقط:
بكسر الميم كما ضبطه الجوهري في الصحاح إلا أنه قال فيه: مقطة بالتأنيث.
قال الصولي: ينبغي أن يكون المقط صلباً فتمضي القطة مستوية لا مشظية. قال الوزير أبو علي بن مقلة رحمه الله: إذا قطعت فلا تقط إلا على مقط أملس صلب غير مثلم ولا خشن لئلا يتشظى القلم؛ وقال الشيخ عماد الدين بن العفيف: ويتعين أن يكون من عود صلب كالأبنوس والعاج، ويكون مسطح الوجه الذي يقط عليه، ولا يكون مستديراً لأنه إذا كان مستديراً تشظى القلم، وريما تهللت القطة فتأتي الإدارات والتشعيرات غير جيدة. قلت: وينبغي ألا يكون مع ذلك مانعاً كالحديد والنحاس ونحوه فإن ذلك يفسد السكين، ولا تجيء القطة صالحة.
الآلة الخامسة: المحبرة:
وهي المقصود من الدواة، وتشتمل على ثلاثة أصناف:
الصنف الأول: الجونة، وهي الظرف الذي فيه الليقة والحبر.
قال بعض فضلاء الكتاب: وينبغي أن تكون شكلاً مدور الرأس يجتمع على زاويتين قائمتين، يوقدهما خط، ولا يكون مربعاً مربعاً على حال لأنه إذا كان مربعاً يتكاثف المداد في زواياه فيفسد المداد، فإذا كان مستديراً كان أبقى للمداد، وأسعد في الاستمداد.
الصنف الثاني: الليقة، وتسميها العرب الكرسف تسمية لها باسم القطن الذي تتخذ منه في بعض الأحوال كما سيأتي والنظر فيها من وجهين: الوجه الأول في اشتقاقها يقال ألقت الدواة ولقتها، أخذاً من قولهم: فلان لا تليق كفه درهماً أي لا تحبسه ولا تمسكه وأنشد الكسائي:
كفاك كف ما تليق درهماً ** جوداً وكف تعط بالسيف الدما

يصفه بالجود، أي كفاك ما تمسك درهماً، ويقال: ما لاقت المرأة عند زوجها أي ما علقت. قال المبرد: دخل الأصمعي على الرشيد عنه، فلما تفرق أهل المجلس قال له: ما معنى ألا قتني؟ قال: ما حبستني، فقال: لا تكلمني في مجلس العامة بما لا أعلم. قال الجاحظ: ولا تستحق اسم الليقة حتى تلاق في الدواة بالنقس وهو المداد.
الوجه الثاني فيما تتخذ منه وتتعاهد به قال بعض الكتاب: تكون من الحرير والصوف والقطن، ويقال فيه الكرسف، والبرس، والطوط، والعطب، والأولى أن تكون من الحرير الخشن: لأن انتفاشها في المحبرة وعدم تلبدها أعون على الكتابة. قال بعض الكتاب: ويتعين على الكاتب أن يتفقد الليقة ويطيبها بأجود ما يكون، فإنها تروح على طول الزمن، ولله القائل:
متظرف شهدت عليه دواته ** أن الفتى لا كان غير ظريف

إن التفقد للدواة فضيلة ** موصوفة للكاتب الموصوف

وكان بعض الكتاب يطيب دوائه بأطيب ما عنده من طيب نفسه، فسئل عن ذلك فقال: لأني أكتب به اسم الله تعالى واسم رسوله صلى الله عليه وسلم واسم أمير المؤمنين أطال الله بقاءه، وربما سبق القلم بغير إرادتنا فنلحسه بألسنتنا ونمحوه بأكمامنا.
قال الشيخ علاء الدين السرمري: ويتعين على الكاتب تجديد الليقة في كل شهر، وأنه حين فراغه من الكتابة يطبق المحبرة لأجل ما يقع فيها من التراب ونحوه، فيفسد الخط. ونظم ذلك في أرجوزته فقال:
وجدد الليقة كل شهر ** فشيخنا كان بهذا يغري

لأجل ما يقع فيها من قذى ** فينتشي من ذاك في الخط أذى

وينبغي له مع ذلك أن يصونها عن الأشياء القذرة كالبصاق ونحوه، فقد حكى محمد بن عمر المدائني أن بعض العلماء رأى صبياً يبصق في دواته فزجره وقال لمعلمه: امنع الصبيان عن مثل هذا، فإنما يكتبون به كلام الله. قال محمد بن عمر المدائني: كأنه تحرج أن يكتب القرآن بمداد غير نظيف. قال المدائني: وكان بلغني عن ابن عباس أنه أجاز أن يبصق الرجل في دواته، فسألت أحمد بن عمرو البزاز عن ذلك فأنكره، وقال: هذا حديث كذب، وضعه عاصم بن سليمان الكوذن، وكان كذاباً ذكرته لأبي داود الطيالسي فقال: هو كذاب يجب أن تعرفوا كذبه، صفوا له مسألة حتى يحدثكم بحديث، فقال: فجئت أنا وعمر بن موسى الحارثي في جماعة، فقال له عمر: ما تقول في الرجل يبزق في الدواة ويستمد منها؟ وكان قد ذهب بصره، فقال: حدثنا عبد الله بن نافع عن ابن عمر أنه كان يبزق في الدواة ويستمد منها، ثم قال: وحدثنا هشام بن حسان عن عكرمة عن ابن عباس مثل ذلك، قال: فهمز بعض أصحابنا وقال: كان ابن عباس لا يبصر، قال: ففهم، فقال: نعم، كان ابن عباس لا يرى بذلك بأساً.
الصنف الثالث: المداد والحبر وما ضاهاهما والنظر فيه من أربعة أوجه: الوجه الأول في تسميتهما واشتقاقهما أما المداد فسمي بذلك لأنه يمد القلم أي يعينه وكل شيء مددت به شيئاً فهو مداد، قال الأخطل:
رأت بارقات بالأكف كأنها ** مصابيح سرج أوقدت بمداد

سمي الزيت مداداً لأن السراج يمد به، فكل شيء أمددت به الليقة مما يكتب به فهو مداد، وقال ابن قتيبة في قوله تعالى: {قل لو كان البحر مداداً لكلمات ربي}: هو من المداد لا من الإمداد. ويقال: أمد القلم في الخير مثل {وأمددناهم بفاكهة ولحم} ومده في الشر، مثل {ونمد له من العذاب مداً}. ويقال فيه أيضاً نقس ونقس، بكسر النون وفتحها مع إسكان القاف ومع السين المهملة فيهما، والكسر أفصح، ويجمع على أنقاس.
وأما الحبر، فأصله اللون، يقال فلان ناصع الحبر يراد به اللون الخالص الصافي من كل شيء، قال ابن أحمر يذكر امرأة:
تتيه بفاحم جعد ** وأبيض ناصع الحبر

يريد سواد شعرها، وبياض لونها؛ وفي الخبر: «يخرج من النار رجل قد ذهب حبره وسبره» بكسر الحاء المهملة والسين فيهما. قال ابن الأعرابي: حبره: حسنه، وسبره هيئته، وقال المبرد: قال التوزي: سألت الفراء عن المداد لم سمي حبراً، فقال: يقال للمعلم حَبر وحِبر يعني بفتح الحاء وكسرها، فأرادوا مداد حبر أي مداد علم، فحذفوا مداد وجعلوا مكانه حبراً. قال: فذكرت ذلك للأصمعي فقال: ليس هذا بشيء إنما هو لتأثيره، يقال: على أسنانه حبر إذا كثرت صفرتها حتى صارت تضرب إلى السواد، والحبر: الأثر يبقى في الجلد، وأنشد:
لقد أشمتت بي آل فيد وغادرت ** بجلدي حبراً بنت مصان بادياً

أراد بالحبر الأثر، يعني أثر الكتابة في القرطاس، قال المبرد: وأنا أحسب أنه سمي بذلك لأن الكتاب يحبر به أي يحسن، أخذاً من قولهم: حبرت الشيء تحبيراً إذا حسنته.
الوجه الثاني في شرف المداد والحبر، واختيار السواد لذلك في الخبر: «يؤتى بمداد طالب العلم ودم الشهيد يوم القيامة فيوضع أحدهما في كفة الميزان والآخر في الكفة الأخرى فلا يرجح أحدهما على الآخر» قال بعض الحكماء: صورة المداد في الأبصار سوداء، وفي البصائر بيضاء، وقد قيل: كواكب الحكم في ظلم المداد. ونظر جعفر بن محمد إلى فتى على ثيابه أثر المداد، وهو يستره منه، فقال له: يا هذا، إن المداد من المروءة. وأنشد أبو زيد:
إذا ما المسك طيب ريح قوم ** كفتني ذاك رائحة المداد

وما شيء بأحسن من ثياب ** على حافاتها حمم السواد

وقال بعض الأدباء: عطروا دفاتر الآداب بسواد الحبر. وكان في حجر إبراهيم بن العباس قرطاس يمشق فيه كلاماً فأسقط فمسحه بكمه، فقيل له: لو مسحته بغيره؟ فقال: المال فرع والقلم أصل، والأصل أحق بالصون من الفرع. وأنشد في ذلك:
إنما الزعفران عطر العذارى ** ومداد الدوي عطر الرجال

وأنشد غيره:
من كان يعجبه أن مس عارضه ** مسك يطيب منه الريح والنسما

فإن مسكي مداد فوق أنملتي ** إذا الأصابع يوماً مست القلما

على أن بعضهم قد أنكر ذلك، وقال: المداد في ثوب الكاتب سخافة، ودناءة منه وقلة نظافة، قال أبو العالية: تعلمت القرآن والكتابة، وما شعر بي أهلي، وما رؤي في ثوبي مداد قط. وأنشدوا:
دخيل في الكتابة يدعيها ** كدعوى آل حرب في زياد

يشبه ثوبه للمحو فيه ** إذا أبصرته ثوب الحداد

فدع عنك الكتابة لست منها ** ولو لطخت وجهك بالمداد

وقال فارس بن حاتم: ببريق الحبر تهتدي العقول لخبايا الحكم، لأنه أبقى على الدهر، وأنمى لذكر وأزيد للأجر.
واعلم أن المداد ركن من أركان الكتابة، وعليه مدار الربع منها وأنشدوا في ذلك:
ربع الكتابة في سواد مدادها ** والربع حسن صناعة الكتاب

والربع من قلم تسوى بريه ** وعلى الكواغد رابع الأسباب

قال بعض العلماء رحمهم الله: وإنما اختير فيه السواد دون غيره لمضادته لون الصحيفة. قال: وليس شيء من الألوان يضاد صاحبه كمضادة السواد للبياض قال الشاعر:
فالوجه مثل الصبح مبيض ** والفرع مثل الليل مسود

ضدان لما استجمعا حسناً ** والضد يظهر حسنه الضد

يقال في المداد: أسود قاتم، وهو أول درجة السواد، وحالك وحانك، وحلكوك، وحلبوب، وداج، ودجوجي، وديجور، وأدهم، ومدهام.
قال المدائني: حدثني بذلك محمد بن نصر عن أحمد بن الضحاك عن أبي عبيدة.
كتب جعفر بن حدار بن محمد إلى دعلج بن محمد يستهديه مداداً:
يا أخي للوداد للمداد ** وصديقي من بين هذا العباد

والذي فيه ألف مجدٍ طريفٍ ** قد أمدت بألف مجدٍ تلاد

أنا أشكو إليك حال دواتي ** أصبحت تقتضي قميص حداد

ولله منصور بن إسماعيل حيث يقول:
وسوداء مقلتها مثلها ** وأجفانها من لجين صقيل

إذا أذرفت عبرة خلتها ** كغالية فوق خد أسيل

الوجه الثالث في صنعتهما، وفيه نظران: النظر الأول: في مادتهما: واعلم أن المواد لذلك منها ما يستعمل بأصله ولا يحتاج فيه إلى كبير علاج وتدبير كالعفص، والزاج، والصمغ، وما أشبهها، ومنها ما يحتاج إلى علاج وتدبير، وهو الدخان. قال أبو القاسم خلوف بن شعبة الكاتب: ويتوخى في الدخان أن يكون من شيء له دهنية، ولا يكون م دخن شيء يابس في الأصل لأن دخان كل شيء مثله وراجع إليه.
قال أحمد بن يوسف الكاتب: كان يأتينا رجل في أيام خمارويه بمداد لم أر أنعم منه، ولا أشد سواداً منه، فسالته من أي شيء استخرجته؟ فكتم ذلك عني، ثم تلطفت به بعد ذلك، فقال لي: من دهن بزر الفجل والكتان، أضع دهن ذلك في مسارج وأوقدها ثم أجعل عليها طاساً حتى إذا نفد الدهن، رفعت الطاس، وجمعت ما فيها بماء الأس والصمغ العربي. وإنما جمعه بماء الأس ليكون سواده مائلاً إلى الخضرة والصمغ يجمعه ويمنعه من التطاير.
قال صاحب الحلية: وإن شئت أخذت من دخان مقالي الحمص وشبهه، وتلقي عليه ماء، وتأخذ ما يعلو فوقه وتجمعه بماء الأس والعسل والكافور والصمغ العربي والملح، وتمده وتقطعه شوابير، والدخان الأول أجود والله أعلم.
النظر الثاني: في صنعتهما؛ وفيه مسلكان:
المسلك الأول في صنعته المداد، وبه كانت كتابة الأولين من أهل الصنعة وغيرهم:
قال الوزير أبو علي بن مقلة رحمه الله: وأجود المداد ما اتخذ من سخام النفظ، وذلك أن يؤخذ منه ثلاثة أرطال، فيجاد نخله وتصفيته، ثم يلقى في طنجير، ويصب عليه من الماء ثلاثة أمثاله، ومن العسل رطل واحد، ومن الملح خمسة عشر درهماً، ومن الصمغ المسحوق خمسة عشر درهماً، ومن العفص عشرة دراهم، ولا يزال يساط على نار لينة حتى يثخن جرمه ويصير في هيئة الطين، ثم يترك في إناء ويرفع إلى وقت الحاجة. وما ذكره فيه إشارة إلى أنه لا ينحصر في سخام النفط، بل يكون من دخان غيره أيضاً كما تقدم. نعم ذكر صاحب الحلية أنه يحتاج مع ذلك إلى الكافور لتطيب رائحته، والصبر ليمنع من وقوع الذباب عليه، وقيل: إن الكافور يقوم مقام الملح في غير الطيب.
المسلك الثاني في صنعة الحبر، وهو صنفان:
الصنف الأول: ما يناسب الكاغد أي الورق: وهو حبر الدخان، ونحن نذكر منه صفات إن شاء الله تعالى.
صفة: يؤخذ من العفص الشامي قدر رطل يدق جريشاً وينقع في ستة أرطال ماء مع قليل من الأس وهو المرسين أسبوعاً، ثم يغلى على النار حتى يصبر على النصف أو الثلثين، ثم يصفتى من مئزر ويترك ثلاثة أيام، ثم يصفى ثانياً، ثم يضاف لكل رطل من هذا الماء أوقية من الصمغ العربي، ومن الزاج القبرسي كذلك، ثم يضاف إليه من الدخان المتقدم ذكره ما يكفيه من الحلاكة، ولا بد له مع ذلك من الصبر والعسل ليمتنع بالصبر وقوع الذباب فيه، ويحفظ بالعسل على طول الزمن، ويجعل من الدخان لكل رطل من الحبر............ بعد أن تسحق الدخان بكلوة كفك بالسكر النبات والزعفران الشعر والزنجار إلى أن تجيد سحقه، ولا تصحنه في صلاية ولا هاون يفسد عليك.
الصنف الثاني: ما يناسب الرق، ويسمى الحبر الرأس، ولا دخان فيه، ولذلك يجيء بصاصاً براقاً وبه إضرار للبصر في النظر إليه من جهة بريقه، ويفسد الكاغد على طول؛ ونحن نذكر منه: صفة حبر، وهي: يؤخذ من العفص الشامي رطل واحد فيجرش ويلقى عليه من الماء العذب ثلاثة أرطال، ويجعل في طنجير، ويوضع على النار ويوقد تحته بنار لينة حتى ينضج وعلامة نضجه أن نكتب به فتكون الكتابة حمراء بصاصة، ثم يلقى عليه من الصمغ العربي ثلاث أواقٍ ومن الزاج أوقية ثم يصفى ويودع في إناء جديد، ويستعمل عند الحاجة.
صفة: حبر سفري: يعمل على البارد من غير نار، ويؤخذ العفص فيجرش جرشاً جيداً ويسحق لكل أوقية عفص درهم واحد من الزاج، ودرهم من الصمغ العربي، ويلقى عليه ويرفع إلى وقت الحاجة. فإذا احتاج إليه صب عليه من الماء قدر الكفاية واستعمله.
الوجه الرابع في ليق الافتتاحات وهي ما يكتب به فواتح الكلام: من الأبواب، والفصول والابتداءات ونحوها، ولا مدخل لشيء من ذلك في فني الإنشاء والديونة، إلا الذهب فإنه يكتب به في الطغراوات في كتب القانات، وفي الأسماء الجليلة منها، كما سيأتي في موضعه من المكاتبات من فن الإنشاء إن شاء الله تعالى، وباقي ذلك إنما يحتاج إليه كتاب النسخ، إلا أنه لا بأس بالعلم به فإنه كمال الكاتب.
ونحن نذكر منه ما الغالب استعماله وهو أصناف:
الصنف الأول: الذهب، وطريق الكتابة به أن يحل ورق الذهب؛ وصفة حله أن يؤخذ ورق الذهب الذي يستعمل في الطلاء ونحوه، فيجعل مع شراب الليمون الصافي النقي، ويقتل فيه في إناء صيني أو نحوه حتى يضمحل جرمه فيه، ثم يصب عليه الماء الصافي النقي ويغسل من جوانب الإناء حتى يمتزج الماء والشارب، ويترك ساعة حتى يرسب الذهب، ثم يصفى الماء عنه ويؤخذ ما رسب في الإناء، فيجعل في مفتلة زجاج ضيقة الأسفل، ويجعل معه قليل ن الليقة، والنزر اليسير من الزعفران بحيث لا يخرجه عن لون الذهب، وقليل من ماء الصمغ المحلول، ويكتب به. فإذا جف صقل مصقلة من جزع حتى يأخذ حده، ثم يزمك بالحبر من جوانب الحرف.
الصنف الثاني: اللازورد، وأنواعه كثيرة، وأجودها المعدني، وباقي ذلك مصنوع لا يناسب الكتابة، وإنا يستعمل في الدهانات ونحوها، وطريق الكتابة به أن يذاب بالماء، ويلقى عليه قليل من ماء الصمغ العربي، ويجعل في دواة كدواة الذهب المتقدم ذكرها، وكلما رسب حرك بالقلم، ولا يكثر به الصمغ كي لا يسود ويفسد.
الصنف الثالث: الزنجفر، وأجوده المغربي، وطريق الكتابة به أن يسحق بالماء حتى ينعم؛ وإن سحق بماء الرمان الحامض فهو أحسن، ثم يضاف عليه ماء الصمغ، ثم يلاق بليقة كما يلاق الحبر، ويجعل في دواة ويكتب به.
الصنف الرابع: المعرة العراقية، وهي مما يكتب به نفائس الكتب، وربما كتب بها عن الملوك في بعض الأحيان. وطريقه في الكتابة كما في الزنجفر، والله أعلم.
الآلة السادسة: الملواق:
بكسر الميم، وهو ما تلاق به الدواة أي تحرك به الليقة. قال بعض الكتاب: وأحسن ما يكون من الأبنوس لئلا يغيره لون المداد. قال: ويكون مستديراً مخروطاً، عريض الرأس ثخينه.
الآلة السابعة: المرملة:
واسمها القديم المتربة، جعلا لها آلة للتراب، إذ كان هو الذي يترب به الكتب، وتشتمل على شيئين: الأول: الظرف الذي يجعل فيه الرمل، وهو المسمى بذلك. ويكون من جنس الدواة إن كانت الدواة نحاساً، أو من النحاس ونحوه إن كانت خشباً على حسب ما يختاره رب الدواة. ومحلها من الدواة ما يلي الكاتب مما بين المحبرة وباطن الدواة مما يقابل المنشاة الآتي ذكرها، ويكون في فمها شباك يمنع من وصول الرمل الخشن إلى باطنها. وربما اتخذت مرملة أخرى أكبر من ذلك تكون في باطن الدواة لاحتمال أن تضيق تلك عن الكفاية لصغرها. وأرباب الرياسة من الوزراء والأمراء ونحوهم يتخذون مرملة كبيرة تقارب حبة الرانج، لها عنق في أعلاها، وتكون في الغالب من جنس الدواة من نحاس ونحوه؛ وربما اتخذت من خشب لقضاة الحكم ونحوهم.
ومما ألغز فيها القاضي شهاب الدين ابن بنت الأعز:
ظريفة الشكل والتمثال قد صنعت ** تحكي العروس ولكن ليس تغتلم

كأنها من ذوي الألباب خاشعة ** تبكي الدماء على ما سطر القلم

وتسمى المتربة أيضاً، وفي ذلك يقول الوجيه المناوي:
يا مادحاً أمراً ولم يأته ** ولم ينل منه ولا جربه

لا تغبط الكاتب في حاله ** فإنه المسكين ذو المتربه

الثاني: الرمل، وقد اختار الكتاب لذلك الرمل الأحمر دون غيره، لأنه يكسو الخط الأسود ن البهجة ما لا يكسوه غيره من أصناف الرمل؛ وخيره ما كن دقيقاً.
وهو على أنواع:
النوع الأول: ما يؤتى به من الجبل الأحمر الملاصق للجبل المقطم من الجهة الشرقية، وهو أكثر الأنواع وأعمها وجوداً بالديار المصرية.
النوع الثاني: يؤتى به من الواحات، وهو رمل متحجر شديد الحمرة، يتخذ منه الكتاب حجارة لطافاً تُحتُ بالسكين ونحوها على الكتابة، وأكثر ما يستعملها كتاب الصعيد والفيوم وما والاهما.
النوع الثالث: يؤتى به من جزيرة ببحر القلزم من نواحي الطور، وهو رمل دقيق أصفر اللون، قريب من الزعفران، وله بهجة على الخط إلا أنه عزيز الوجود.
النوع الرابع: رمل بين الحمرة والصفرة، به شذور بصاصة يخالها الناظر شذور الذهب، وهو عزيز الوجود جداً، وبه يرمل الملوك ومن شابههم.
الآلة الثامنة: المنشاة:
وتشتمل على شيئين أيضاً: الأول: الظرف، وحاله كحال المرملة في الهيئة والمحل من الدواة من جهة الغطاء إلا أنه لا شباك في فمه لتوصل إلى اللصاق، وربما اتخذ بعض ظرفاء الكتاب منشاة أخرى غير التي في صدر الدواة من رصاص على هيئة حق لطيف، ويجعلها في باطن الدواة كالمرملة المتوسطة، فإن اللصاق قد يتغير بمكثه في النحاس، بخلاف الرصاص.
الثاني: اللصاق، وهو على نوعين: أحدهما النشا المتخذ من البر، وطريقه أن يطبخ على النار كما يطبخ للقماش، إلا أنه يكون أشد منه، ثم يجعل في المنشاة، وهو الذي يستعمله كتاب الإنشاء ولا يعلون على غيره لسرعة اللصاق به، وموافقة لونه للورق في نصاعة البياض، والثاني المتخذ من الكثيراء، وهو أن تبل الكثيراء بالماء حتى تصير في قوام اللصاق، ثم تجعل في المنشاة، وكثيراً ما يستعمله كتاب الديونة، وهو سريع التغير إلى الخضرة ولا يسرع اللصاق به. وينبغي أن يستعمل في اللصاق في الجملة الماورد والكافور لتطيب رائحته.
الآلة التاسعة: المنفذ:
وهي آلة تشبه المخرز، تتخذ لخرم الورق، وينبغي أن يكون محل الحاجة منها متساوياً في الدقة والغلظ، أعلاه وأسفله سواء، لئلا تختلف أثقاب الورق في الضيق والسعة، خلا أن يكون ذبابة دقيقاً ليكون أسرع وأبلغ في المقصود، وحكمه في النصاب في الطول والغلظ حكم المدية، وقد سبق. وأكثر من يحتاج إلى هذه الآلة من الكتاب كتاب الدواوين، وربما احتاج إليها كاتب الإنشاء في بعض أحواله.
الآلة العاشرة: الملزمة:
قال الجوهري: الملز بالكسر خشبتان تشد أوساطهما بحديدة تكون مع الصياقلة والأبارين، ولم يزد على ذلك. وهي آلة تتخذ من النحاس ونحوه، ذات دفتين يلتقيان على رأس الدرج حال الكتابة ليمنع الدرج من الرجوع على الكاتب، ويحبس بمحبس على الدفتين.
الآلة الحادية عشر: المفرشة:
وهي آلة تتخذ من خرق كتان: بطانة وظهارة أو من صوف ونحوه، تفرش تحت الأقلام وما في معناها مما يكون في بطن الدواة.
الآلة الثانية عشر: الممسحة:
وتسمى الدفتر أيضاً، وهي آلة تتخذ من خرق متراكبة ذات وجهين ملونين من صوف أو حرير أو غير ذلك من نفيس القماش، يمسح القلم بباطنها عند الفراغ من الكتابة لئلا يجف عليه الحبر فيفسد؛ والغالب في هذه الآلة أن تكون مدورة مخرومة من وسطها، وربما كانت مستطيلة، ويكون مقدارها على قدر سعة الدواة. وفيها يقول القاضي رحمه الله:
ممسحة نهارها ** يجن ليل الظلم

كأنها مذ خلقت ** منديل كم القلم

وقال نور الدين عليل بن سعيد المغربي فيها:
وممسحة لاحت كأفق تبددت ** به قطع الظلماء والصبح طالع

ولما أطال الليل فيها وروده ** حكته ومدت للصباح المطالع

وقال المولى ناصر الدين شافع بن عبد الظاهر:
وممسحة تناهى الحسن فيها ** فأضحت في الملاحة لا تباري

ولا نكر على القلم الموافي ** إذا في وصلها خلع العذارا

الآلة الثالثة عشر: المسقاة:
وهي آلة لطيفة تتخذ لصب الماء في المحبرة وتسمى الماوردية أيضاً: لأن الغالب أن يجعل في المحبرة عوض الماء ماورد لتطيب رائحتها، وأيضاً فإن المياه المستخرجة كماء الورد والخلاف والريحان ونحو ذلك لا تحل الحبر ولا تفسده بخلاف الماء. وتكون هذه الآلة في الغالب من الحلزون الذي يخرج من البحر الملح، وربما كانت من نحاس ونحوه، والمعنى فيها ألا تخرج المحبرة من مكانها، ولا يصب من إناء واسع الفم كالكوز ونحوه، فربما زاد الصب على قدر الحاجة.
الآلة الرابعة عشر: المسطرة:
وهي ألة من خشب مستقيمة الجنبين يسطر عليها ما يحتاج إلى تسطيره من الكتابة ومتعلقاتها؛ وأكثر من يحتاج إليها المذهب.
الآلة الخامسة عشر: المصقلة:
وهي التي يصقل بها الذهب بعد الكتابة، وهي من آلات الدواة لا محالة.
الآلة السادسة عشرة: المُهْرَقُ:
بضم الميم وفتح الراء وهو القرطاس الذي يكتب فيه، ويجمع على مهارق. قلت: وعد صاحبنا الشيخ زين الدين شعبان الآثاري منها المداد، وهو ظاهر، والمحيط، وفي عده بعد.
الآلة السابعة عشر: المسن:
هو آلة تتخذ لإحداد السكين؛ وهو نوعان: أكهب اللون، ويسمى الرومي، وأخضر؛ وهو على نوعين: حجازي وقوصي؛ والرومي أجودها، والحجازي أجوده الأخضر.